>هل تؤدي قوانين حقوق الملكية الفكرية لوأد الإبداع وخنق الثقافة؟

>هل تؤدي قوانين حقوق الملكية الفكرية لوأد الإبداع وخنق الثقافة؟
*(قرأت هذا المقال وأحببت أن أشارككم فيه)
Free Culture: How Big Media Uses Technology and the Law to Lock Down Culture and Control Creativity.Lawrence LessigPenguin Press – New York, 2004ISBN: 1- 59420-006-8
يبدو أن قوانين الملكية الفكرية قد أصابها شيء من الشطط، مما حدا بالكثير من الأكاديميين (وعلى رأسهم مؤلف كتاب "ثقافة حرة") إلى التنبيه إلى حدوث تحول جذري في وجهة نظر القانون للخطوط الدقيقة الفاصلة بين حقوق المستهلكين الأفراد وحقوق الشركات فيما يتعلق بالمنتجات الفكرية والإبداعية، ثم الأثر الخطير لذلك على عملية خلق الثقافة والإبداع العام.
الاعتياد يولد الاعتقاد!
لعلي لا أحيد عن المنطق إذا قلت أن التكرار والاعتياد ربما يؤديان بالشخص إلى الارتكان إلى – وقبول – مفاهيم غير ناضجة، لم تحصل بعد على ما يجب أن ينالها من الأناة والتمحيص. وحيث تحظى تلك المفاهيم بذلك القبول لا لشيء سوى أنها دارت على الألسنة، أو سارت في بعض الكتابات، أو حتى فُرضت من قبل البعض من خلال إلحاحهم على استعمالها.
يصدق ذلك على قوانين حقوق الملكية الفكرية وما صاحبها من تبريرات إصدارها واستعمالها. فمن كثرة ما تطالعنا عبارة "كل الحقوق محفوظة"، أو علامة © (للدلالة على أن منتجا إبداعيا ما يخضع للملكية الفكرية لشخص أو مؤسسة)، صار معظمنا يتقبل قوانين الملكية الفكرية باعتبارها تطورا طبيعيا في سياق اقتصاديات السوق السائدة حاليا. وحيث من المنطقي – نظريا – أن كل مبدع، في أي فرع من فروع الإبداع، لابد أن يتقاضى نظيرا لإبداعه؛ فتلك – أولا – هي الطريقة التي يكسب بها المبدع رزقه. وثانيا، ذلك هو الأسلوب الذي يشجع به المجتمع مبدعيه على مواصلة الإبداع وإثراء الثقافة. وثالثا، ووفقا لأبجديات اقتصاد السوق أيضا، فإن أي منتج (سواء أكان قطعة من القماش أو قطعة موسيقية) يمثل "قيمة" ما فإنه يعتبر "ملكية"، ومن ثم فإن له مالكا يجب أن يتقاضى نظير استخدام ذلك المنتج أو نقل ملكيته لآخرين.
لقد انتشرت هذه الأفكار ووصلت لدرجة المسلّمات. ولعلها كانت تدور في خلفية عقول نواب بعض البرلمانات العربية التي صادقت مؤخرا على قوانين الملكية الفكرية تمهيدا لاندماج هذه البلدان في اتفاقية التجارة العالمية. وكذلك ربما كان في خلفية وعي هؤلاء النواب أن الاجتهاد حول أمور مثل الملكية الفكرية والقرصنة قد أغلق. ففي ظنهم أن هذه الأمور قتلت بحثا في الغرب (الولايات المتحدة خاصة، التي تدفع بهذه القوانين في بلدان العالم الثالث). ومن ثم، فلا داعي لفتح النقاش حول ما حُسم من أمور.
ولكن بين أيدينا الآن كتابا لأستاذ القانون في جامعة استانفورد (بالولايات المتحدة)، لورانس ليسيغ، لبّه أن الجدل والنظر في قوانين الملكية الفكرية لا يجب أن يغلقا. فقوانين الملكية الفكرية التي مررت حديثا – في الولايات المتحدة، ويُمرر، أو مرر، مثلها في دول العالم الثالث – يشوبها خلط هائل. والمؤلف يرى أن ذلك الخلط متعمد، وأن كيانات بعينها تقف وراء نشر ذلك الخلط للحفاظ على مصالحها. وأنه إذا لم يتم الانتباه لذلك، فستترتب آثار سالبة هائلة على المجتمع والثقافة والمبدعين، وهي الكيانات الثلاثة التي يدّعي مروجو قوانين الملكية الفكرية أنهم يدافعون عنها. فكيف حدث ذلك الارتباك؟
أقوى من الدستور
في كتابه الأخير الصادر هذا العام "ثقافة حرة: كيف تستخدم الشركات الإعلامية الكبرى التكنولوجيا والقانون لخنق الثقافة والتحكم في الإبداع"، يرى لورانس ليسيغ أن قوانين الملكية الفكرية الأخيرة تمثل انحرافا خطيرا عن المسار الذي اعتاد القانون أن يسلكه. فهذه القوانين التي أفلح اتحادا شركات إنتاج الأفلام (MPAA) والموسيقى (RIAA) الأميركيَين في "إقناع" الكونغرس الأميركي بتمريرها، في سياق "الحرب" التي يشنها رجال هذين الاتحادين على ما يسمى بالقرصنة هي قوانين متعسفة، تضرب التوازن الذي طالما حافظ عليه الدستور والتشريع بصفة عامة بين صالح المستهلك والمجتمع على طرف، وصالح شركات المنتجات الإبداعية (الأفلام، الموسيقى، القنوات الإذاعية، وقنوات التليفزيون عبر الكابل) على الطرف الآخر. والمؤلف يرى أن هذه القوانين غير دستورية، ولكن قوة اتحادي الموسيقى والأفلام وسطوتهما في الكونغرس – فيما يبدو – أقوى من الدستور الأميركي!
من وجهة نظر ليسيغ، ثمة بعدان – متداخلان – للإشكالية التي تسببت فيها قوانين الملكية الفكرية الأخيرة: بعد قانوني وآخر ثقافي إبداعي.
ففي البعد القانوني، يرى المؤلف أنها المرة الأولى التي تتخلف فيها التشريعات والقوانين عن التعرف والوعي الكاملين بآفاق تقنية واعدة، هي الإنترنت، وبقدرة هذه التقنية على المساهمة في إنتاج ونشر أنواع جديدة من الإبداع. وقد أدى ذلك – وبضغط من شركات الأفلام والموسيقى بدعوى محاربة القرصنة – إلى إصدار قوانين تقيد ذلك الوسط التقني الهائل، وتحد من إمكانيات استخدامه. وبذلك تحولت هذه القوانين (التي بدأت عام 1710 في بريطانيا وعام 1790 في أميركا) من مجرد أداة لضمان حصول دور النشر على حقوقها من بيع الكتب وعدم السماح لآخرين بنسخها وبيعها دون وجه حق، إلى مثبط يعوق قدرة الفرد على استخدام المنتج الذي اشتراه على الوجه الذي يبتغي (سنعود لهذه النقطة لاحقا بمزيد من التفصيل، تحت عنوان: الملكية الفكرية).
والمؤلف يرى أن هذه "الحرب" من قبل منتجي الأفلام والموسيقى ليست على القرصنة، وإنما على التقنية نفسها (الإنترنت). كما أن هذه الحرب ليست لصالح المبدعين، وإنما لصالح الموزعين؛ أي الشركات التي تنتج وتوزع. هذه الشركات الضخمة ترى في الإنترنت مهددا لسيطرتها على سوق إنتاج وتوزيع الأفلام والموسيقى. ولهذا فإنهم "يريدون أن يحكموا قيادهم على الإنترنت قبل أن يخرج المارد من القمقم ويُحكم القياد عليهم" كما يقول المؤلف. فالإنترنت، كتقنية وكوسط إعلامي هائل، أكثر كفاءة ودينامية في إنتاج الإبداع ونشره، مجانا في أغلب الأحوال. لأن ذلك الإبداع يأتي في صورة مبادرات فردية، غير تجارية. ولهذا في الشركات تستغل قوتها لتمرير القوانين التي من شأنها أن تجهض التقنية ذات الآفاق المهددة لهم.
تاريخيا، ليس هذا بمستغرب. فقد دأبت الشركات الكبرى دائما على وأد أو تعطيل أي تقنية يمكن أن تقوض من وضع السيطرة الذي تمتاز به. ويضرب لنا المؤلف مثالا على ذلك تقنية FM للبث الإذاعي. ففي أوائل عام 1933 حصل المخترع الأميركي إدوين هَوارد أرمسترونغ (الذي يعتبر الكثيرون أنه يأتي في المرتبة الثالثة في العبقرية بعد إديسون وغراهام بل) على 4 براءات اختراع خاصة بتقنية FM للبث الإذاعي. وكان أرمسترونغ يعمل حينها مهندسا في شركة RCA الأميركية الشهيرة لمد شبكات المحطات الإذاعية، التي كانت تعمل وقتها وفقا لنظام AM (Amplitude Modulation). وكان ديفيد سارنوف، رئيس RCA وقتها وصديق أرمسترونغ، يظن أن الاختراعات الجديدة تتعلق بتحسين البث بنظام AM السائد، ولذلك كان متحمسا لها في بادئ الأمر. ولكن عندما أجرى أرمسترونغ أول بث تجريبي عبر موجة FM عام 1935، ورغم جودة الصوت غير المعهودة التي شهد بها جميع الحضور، أدرك سارنوف أن هذه التقنية ستقوض من الوضع شبه الاحتكاري الذي تحظى به شركته، ولذا أخذ يعطل من تطبيق التقنية الجديدة، ثم – وعندما نفد صبر أرمسترونغ – نقل الصراع إلى ساحة القضاء، مدعيا أن براءات الاختراع غير صحيحة وأنها من حق شركته وليست من حق أرمسترونغ. وامتد هذا الصراع في ساحة القضاء لسنوات إلى أن انتحر أرمسترونغ عام 1954، بائسا مفلسا، غير قادر على دفع نفقات محاميه.
يشير ليسيغ لواقعة شركة RCA وأرمسترونغ باعتبارها مثالا دالا على قدرة الشركات على وأد أو – على الأقل – تعطيل بعض التقنيات التي تهدد وضعها. خاصة إذا كانت هذه الشركات من القوة بحيث تمتد علاقاتها لتشمل "الكونغرس". ثم يشير في غير موضع أن اتحادي منتجي الأفلام والموسيقى هما RCA العصر الحديث. ومن ثم فإننا لا يجب أن نتركهما ليفعلا بالإنترنت وبالمبدعين الجدد ما فعلته RCA بأرمسترونغ.
وحتى لو كانت الحرب موجهة ضد القرصنة فحسب كما يدّعون، فإن هذه الحرب من الشراسة والاندفاع بحيث أنها يمكن أن تدمّر في خضمها آفاق وإمكانيات الإنترنت. وفي هذا ضرر لا يمكن تجاهله.
أما البعد الثقافي الإبداعي للإشكالية التي تطرحها قوانين الملكية الفكرية الأخيرة فهو – وكما يرى المؤلف – أنه كان هناك دائما ما يمكن أن نطلق عليه "النطاق العام" من الثقافة والإبداع؛ ويقصد به مختزن الذاكرة والإبداع والثقافة التي أنتجتها أمة ما، والتي تمثل منجم الأفكار والإلهام للأجيال الجديدة من المبدعين لكي يأخذوا ويبدلوا ويعدلوا لينتجوا لنا إبداعا جديدا. وهكذا جيلا بعد جيل، بحرية مطلقة. ما يحدث الآن غير ذلك. فالقوانين الأخيرة تتعسف وتتطرف (حسب تعبير المؤلف) في تحديد الملكيات الفكرية، وبالتالي فإنها تعمل على تآكل مخزون "النطاق العام" بدرجة تحوّل ثقافة المجتمع – أي مجتمع – من "ثقافة حرة" إلى "ثقافة الاستئذان". والثقافة الحرة هي تلك يستطيع فيها كل فرد أن يعتمد على "النطاق العام" فيأخذ ويغير ويبدل ويبدع بكامل الحرية. أما في ثقافة الاستئذان – التي ترسيها القوانين الأخيرة كما يرى المؤلف – فإننا نتحول إلى مجتمع يكون فيه على كل مبدع أو مبتكر شاب أن يحصل على "الإذن" أولا، إما من الشركات الكبرى التي تملك الحقوق الفكرية لأحد المنتجات الإبداعية أو من أحد المبدعين السابقين.
والأمر كذلك، فإن هذه القوانين لا تدافع عن المبدعين والإبداع، وإنما ستؤدي لخنقه. ويضرب المؤلف مثالا على ذلك ما يحدث من معاناة عند تصوير أي فيلم. فعند تصميم مكان تصوير المشاهد، لابد أن يتأكد المخرج أنه لا يوجد أي شيء في خلفية المشهد يقع في حدود الملكية الفكرية لأي شركة أو شخص، وإلا فمن الممكن أن إيقاف عرض الفيلم بعد نزوله دور العرض. ويروي المؤلف ما حدث لمخرج الأفلام الوثائقية (جون إلز) الذي اضطر لاستخدام 4.5 ثانية من أحد أفلام شركة (فوكس) في فيلم وثائقي له، في خلفية أحد المشاهد. طلب الرجل أولا الإذن من مخرج الفيلم، فوافق المخرج ولكنه نصحه بأن يحصل على إذن من الشركة الموزعة، التي لم تمانع ولكنها نصحته بدورها أن يحصل على إذن من الشركة المنتجة؛ فوكس، التي طلبت منه 10 آلاف دولار في مقابل الثواني المعدودة وإلا ستقوم الشركة بملاحقته قضائيا. وبالطبع لم تتحمل الشركة المنتجة للفيلم الوثائقي دفع مقابل الثواني الأربعة، وتم تأجيل التصوير لفترة، ثم أعيد بناء المشهد الذي كان يحوي الثواني (المكلفة). والأمثلة غير ذلك عديدة لأفلام تمت ملاحقتها قضائيا – وهي في دور العرض – (مثل فيلم "محامي الشيطان" بطولة الممثل آل باتشينو) لأن أحد المشاهد كان يحوي في الخلفية لوحة أو كرسي أو سجادة من تصميم شخص أو شركة ما! وقس على ذلك كل أنواع الإبداع الأخرى من الأدب والموسيقى والأفلام والرسم وغيرها. فهل تكون مثل هذه الثقافة باعثة على الإبداع أم مثبطة له؟ وهل يتوجب علينا الانتباه إلى القوانين التي ترسي لهذه الثقافة أم أننا نستطيع أن نسترسل في تجاهلنا المريح؟
الملكية الفكرية
فإذا كانت قوانين الملكية الفكرية الأخيرة مشوبة بالخلط، المتعمّد أو غير المتعمّد، فحريّ بنا أن نلقي بمزيد من الضوء على المفاهيم التي أصدرت حولها، وبشأنها، القوانين. خاصة مفهومي الملكية الفكرية والقرصنة.
فالملكية الفكرية هي "أي منتج للعقل البشري متفرد وأصيل وغير واضح للآخرين، وذو قيمة إذا ما طرح للبيع. والملكية الفكرية يمكن أن تكون فكرة أو اختراعا أو عملا أدبيا أو اسما متفردا أو تركيبة كيميائية أو أسلوبا لأداء وظيفة أو عمل ما أو حتى أسلوب عرض مبتكر". والملكية الفكرية – كما يدل اسمها – هي ملكية، شأنها شأن ملكيات أخرى كالعقارات أو الأراضي أو غيرها. ولكن ثمة فارقا كبيرا بين الملكية الفكرية والملكيات التقليدية هو الذي أثار الارتباك والجدل الحاليين.
ففي الملكيات التقليدية، ما إن تحصل على حق ملكية ما، فإن لك مطلق الحرية في استخدامها على الوجه الذي يحلو لك. فلو أنك اشتريت مثلا ثمرة بطاطس، فإن ملكيتك لهذه الثمرة تخوّل لك أن تستفيد منها مطبوخة أو مقلية أو أن تستعملها كخامة للنحت لتنتج منها عملا فنيا أو أن تزرعها ثانية، أو حتى أن "تهجنها" بطريقة ما مع ثمرة بطاطس أخرى لإنتاج سلالة أفضل من البطاطس. أي أن كافة استعمالات ملكية ثمرة البطاطس كانت مكفولة لك بقوة القانون، ولم يكن البائع الذي اشتريت منه ليجرؤ أن يقاضيك لأنك استخدمت الملكية الفكرية المدمجة في البطاطس (وستكون هنا الشفرة الوراثية لنبات البطاطس) دون وجه حق عندما قمت بتهجينها مع نوع آخر.
أما في الملكية الفكرية، فأنت عندما تشتري، مثلا، قرصا مدمجا (سي دي) فالأمر مختلف. فقد استطاع أصحاب هذه الملكية الفكرية – باستخدام التكنولوجيا – أن يتحكموا في كيفية استخدامك لهذه الملكية، رغم أنها – نظريا – آلت إليك بعد شرائك لذلك الـ سي دي. فليس مسموحا لك أن تنسخ، مثلا، أغنيات من ذلك الـ سي دي على حاسبك الشخصي. وليس مسموحا لك أن تصنع نسخة احتياطية من ذلك السي دي حال فقد أو تلف الأصلي. وليس مسموحا لك أن تشغّله على بعض المشغلات التي ربما تيسر من نسخه. وليس مسموحا لك – لو أنك موسيقي هاو مثلا – أن تدمج قطعة من هنا مع قطعة من هناك مع قطعة من تأليفك لتنتج عملا موسيقيا جديدا، حتى لو كان ذلك لأغراض غير تجارية.
بالطبع هذا يؤدي إلى خنق الإبداع، وسيترتب عليه آثار سالبة على المجتمع ككل كما أسلفنا. ولكن لب النقاش هنا هو أننا لا يجب أن نتعامل مع الملكية الفكرية بنفس الطريقة التي نعامل بها الملكيات الأخرى. لأنه لو تم ذلك، سيكون ذلك في صالح فئة صغيرة من المجتمع (الموزعون والمنتجون وليس المبدعين على الأغلب)، وعلى حساب المجتمع كله. وستصبح الملكية الفكرية ليست أكثر من "ملكية احتكارية". ويذكر المؤلف أن المشرّعين الأميركيين الأوائل قد وعوا ذلك جيدا. فبينما أكد المشرعون في دستور 1789 على حرمة، بل وقداسة، الملكيات الخاصة في التعديل الدستوري الخامس [Fifth Amendment] وأن الحكومة لا بد أن تدفع نظير استيلائها على – أو إتلافها – لأي ملكية من ملكيات الأفراد، فإن هؤلاء المشرعين كان لهم رأي مختلف فيما يخص الملكية الفكرية. حيث أشاروا أن هذه الملكية يجب أن تحدد "بفترة زمنية معينة" بعدها تؤول إلى المجتمع. ولو لم يقم المشرعون بهذه الخطوة لما انتشرت أعمال شيكسبير، مثلا، بالصورة التي انتشرت بها. فقد وازن هؤلاء المشرّعون بين الضرر الذي سيقع على ناشري أعمال شيكسبير عبر تحويل أعمال الشاعر والمسرحي العظيم إلى النطاق العام بعد فترة معينة، وبين الضرر الذي سيقع على المجتمع كله لو لم تنشر هذه الأعمال العظيمة ليستفيد منها كل فرد في المجتمع. ليس فقد ليقرأها أو ليتلوها أو يؤديها تمثيلا، وإنما أيضا ليحورها وينتج منها إبداعا جديدا.
فالنقاش هنا إذن، وفي كل النقاشات حول الملكية الفكرية، لا يدور حول إذا ما كانت "الأفكار" تصلح أن تكون ملكيات تباع وتشترى. فثمة إجماع على أنها من هذا المنظور ملكية لا جدال فيها. أما الخلاف فيثور من نقطتين. أولا في مد حقوق الملكية الفكرية لتشمل التحكم في الطريقة التي يُستخدم بها المنتج المحمي بقوانين الملكية الفكرية. وثانيا، في المدة التي يكفلها القانون للحفاظ على ملكية فكرية كملكية خاصة من حق شخص أو شركة، قبل أن تؤول للنطاق العام، ليستفيد منها المجموع. فقد حدث تطور كبير في ذلك السياق؛ فبعد أن كانت مدة حق الملكية الفكرية 14 عاما فحسب عام 1710، صارت اليوم أكثر من 90 عاما، وربما أكثر كما حدث مع ملكية الشخصية الكرتونية "ميكي ماوس" لشركة ديزني. وأثر ذلك أنه سيمنع أي مبدع أو مبتكر صغير موهوب من تحوير أو البناء على أي منتج أو فكرة بازغة. فلابد أن تمر 90 سنة، يكون خلالها المبتكر الصغير الذي واتته الفكرة قد ووري في التراب!
القرصنة
أما القرصنة فهي "الاستيلاء على الملكية الفكرية لمبدع أو استخدامها بطريقه تحرمه من تحقيق الربح من ورائها". إلى هنا يؤكد المؤلف لورانس ليسيغ أنه ضد القرصنة. ولكنه يعود فينبهنا إلى أن قوانين الملكية الفكرية الأخيرة تخلط بين أمرين لم يخلط بينهما المشرّعون من قبل: إذ لا تميز بين إعادة إنتاج أحد الأعمال الإبداعية (كطباعة كتاب مثلا) بهدف الإتجار فيه دون إذن المبدع، من ناحية، وبين استلهام فكرة أحد الأعمال الإبداعية، وتطويرها وتحويرها وإنتاج عمل إبداعي جديد ومختلف. في رأي المؤلف أن ذلك هو مثار الارتباك الذي أصاب قوانين الملكية الفكرية، وسيصل أثره – سلبا – إلى جوهر عملية إنتاج الثقافة المجتمعية كفعل تراكمي وتدويري.
ويضرب المؤلف أمثلة عديدة على أن القانون كان يحفظ دائما حق الفرد المبدع في "القرصنة" (!) على جزء ما من الإبداع الواقع في "النطاق العام" ليتيح الفرصة لإنتاج إبداع جديد. فبهذه الطريقة ظهرت للوجود الأعمال الفنية لشكسبير وولت ديزني. فمثلا الخطوط العامة لمسرحيتي "هاملت" و"روميو وجولييت" كانت قصصا شعبية في النطاق العام في زمان شكسبير، في أواخر القرن السادس عشر. وقد كانت عبقريته، وإضافته، تكمن في تعبيره الشعري الرائع وفي قدرته على تطوير الخطوط الدرامية العامة إلى تصاعد درامي محبوك وخلاب. وكذلك الأمر لوولت ديزني مبتكر شخصية الفأر الكرتوني "ميكي ماوس". فأول فيلم ناجح في سلسلة أفلام "ميكي ماوس" كان الفيلم رقم 2، إذ أخفق سابقه. وقد كان ذلك الفيلم الثاني الذي أنتج عام 1928 يحمل اسم "القارب البخاري ويلي"، ولم يكن هذا الفيلم أكثر من محاكاة كرتونية ساخرة لفيلم سابق هو "القارب البخاري بيل" للممثل العبقري (باستر كيتون) الذائع الصيت وقتها. وقائمة "قرصنة" وولت ديزني (أو شركة ديزني) على إبداع "النطاق العام" تمتد لتشمل أغلب أفلام ديزني الشهيرة مثل "سنو وايت" (1937)، "أليس في بلاد العجائب" (1951)، "الجمال النائم" (1959)، "كتاب الغابة" (1967) و"مولان" (1998). وهذه "الاستعارات" من النطاق العام ليست عملا سلبيا بل هي إبداع إيجابي رائع في حد ذاته، كما يؤكد المؤلف، وإضافة إلى مخزون الثقافة.
لنتصور إذن أن قوانين الملكية الفكرية الحالية كانت موجودة في عصر شكسبير أو في زمان وولت ديزني، وكيف كان سيحرمنا ذلك من الأعمال المسرحية والكرتونية الرائعة التي أنتجها هذان العبقريان، بفضل موهبتهما الشخصية بالطبع، إضافة إلى الحرية التي أتاحها لهما زمناهما في "الأخذ والتحوير والتجديد والإبداع". ثم دعونا نتصور كم شكسبير وولت ديزني من شباب اليوم سيوأدون في المهد بفضل القوانين المتعسفة الحالية لقوانين الملكية الفكرية.
لقد بدأت حقوق الملكية الفكرية في الأساس كوسيلة، أما الغاية فكانت حماية الإبداع. الآن انقلبت الأمور رأسا على عقب، وصارت حقوق الملكية الفكرية هي الغاية (لشركات الإنتاج والتوزيع بالطبع) التي يمكن لأجلها غض الطرف عما يحدث للإبداع، تعطيلا أو تحكما أو إجهاضا.
ومن ناحية أخرى، نحن لا نستطيع أن نطبق فكرة "إذا كان المنتج يمثل قيمة ما فلابد أنه حق أو ملكية، ولابد له من مالك" باعتبارها القاعدة، كما تذكر أستاذة القانون بجامعة نيويورك (روتشيل دريفوس). فهذه الفكرة من وجهة نظرها قاصرة للغاية لأنها، أولا، تتجاهل كل الإبداع الثمين الذي كان متاحا في "النطاق العام" للجميع، والذي ألهم عددا لا يحصى من المبدعين. وثانيا، أنها تمثل منظورا سلبيا في تحديد الملكيات الفكرية يميل إلى تسويغ توسيع نطاق الملكيات الخاصة إلى أقصى حد وإلى تضييق نطاق الملكيات الإبداعية العامة أو النطاق العام إلى أدنى حد.
ثقافة حرة
ليس لورانس ليسيغ؛ مؤلف هذا الكتاب، الشخص الوحيد الذي ينبه إلى خطورة الخلط الحالي في مفهوم الملكية الفكرية، وما يتبعه من إصدار قوانين. فهناك العديد من الأكاديميين الآخرين من أمثال ميشيل بولدرين من جامعة مينيسوتا، ديفيد ليفاين من جامعة كاليفورنيا، وروتشيل دريفوس من جامعة نيويورك وغيرهم الكثيرون. كلهم مشغولون بدق نواقيس الخطر بشأن التحول الخطير في مسار ومنظور القانون: من الحفاظ على النطاق الإبداعي العام وتنميته وإثرائه إلى تقييده لحساب الملكيات الفكرية الخاصة.
وكنا قد أسلفنا أنه في رأي لورانس ليسيغ أن ذلك التحول في منظور القانون سيحول الثقافة المجتمعية من "ثقافة حرة" إلى "ثقافة استئذان". نستطيع أن نلخص وجهة نظر المؤلف فيما يتعلق بالثقافة الحرة في النقاط التالية:
الثقافة الحرة لا تعني إلغاء الملكيات الفكرية. فالثقافة الحرة شأنها شأن الاقتصاد الحر، تحترم الملكيات وتنظمها. ولكن مثلما يفسد الاقتصاد الحر إذا ما ظهرت "الإقطاعيات" فإن الثقافة الحرة تفسد إذا ما تركزت الملكيات الفكرية في يد عدد محدود من الكيانات (في الولايات المتحدة تنتج 7 شركات إعلامية ضخمة حوالي 85% من كل الإنتاج الموسيقي والسينمائي والتليفزيوني). ومن ناحية أخرى فإن الثقافة الحرة تناهض تركّز الملكيات الفكرية باعتباره أحد أشكال تركّز السلطة، الذي هو بدوره اعتداء على الديموقراطية الحقيقية.
الثقافة الحرة هي الوسط الذي نمت فيه – عبر التاريخ – العبقريات والمواهب التي صنعت ما نتمتع به الآن من منجزات الحضارة. ويجب علينا أن نحافظ على هذه الثقافة للأجيال الجديدة. يجب علينا أن نترك لهم إرثا من حرية الإبداع والابتكار، وألا نكبلهم بقوانين تصب فحسب في صالح حفنة من الكيانات على حساب المجموع.

في الثقافة الحرة الشعارات الحادة غير مقبولة. فإلغاء الملكيات الفكرية مرفوض، ولكن في ذات الوقت ليست "كل الحقوق محفوظة". وليس المقصود هنا أن يُسلب مبدع من تقاضي نظير إبداعه، وإنما أن تتاح للمستخدم الفرصة للاستفادة من المنتج على الصورة التي تحلو له (باعتباره قد دفع نظيرا لذلك) دون تدخل من صاحب حق الملكية الفكرية. وهنا يدعو المؤلف إلى ما يمكن أن يكون حلا وسطا أو "بعض الحقوق محفوظة".
في الثقافة الحرة تستعمل التقنية لإطلاق الإبداع وليس لتكبيله. فبدلا من أن تدمج برامج وتطبيقات تقيد من قدرة المستخدم على الاستفادة من منتج ما (حتى لو كان الاستخدام مشروعا تماما)، فإن التقنية يمكن – ويجب – أن تستعمل لكي تشجع المستخدم على استعمال المنتج بطريقة مبتكرة وعلى تحويره أو تطويره والبناء عليه.


الثقافة الحرة ترسخ لمجتمع لا يحتاج للمحامين في كل صغيرة وكبيرة (رغم أن المؤلف نفسه محام!). وذلك أن الشطط في تطبيق قوانين الملكية الفكرية قد جعل كل فعل يقوم به المستخدم عرضة للملاحقة القانونية، ومن ثم فإن كل فرد في المجتمع صار يحتاج لمحام ليدافع عنه أمام اتحادي منتجي الموسيقى والأفلام. وفي هذه الحلبة يخسر الضعفاء (المستخدمون) حتى والحق في جانبهم، لأنهم لا يملكون الموارد التي يواصلون بها الحرب في ساحة القضاء ضد هذه الكيانات الضخمة.
في الثقافة الحرة يسمح بقدر من "القرصنة الإبداعية" إن صح القول، من قبيل تلك التي قام بها شيكسبير أو وولت ديزني، لأن ذلك الإبداع هو الذي يضيف للنطاق الإبداعي العام، ويفتح الأفق أمام مبدعي المستقبل لكي يضيفوا بدورهم.
وأخيرا فإن هذا الكتاب يذكرنا بأننا إن لم نبادر لإعادة القانون لمساره التاريخي، فإن قوانين حقوق الملكية الفكرية ستطال الجميع. ليس أحد بمنأى عنها. ومن ثم، فإن توريث ثقافة حرة للأجيال القادمة، كما ورثناها نحن، هو مسؤوليتنا التي يجب أن لا نتملص منها.

تعليقات

المشاركات الشائعة